سورة المدثر - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المدثر)


        


ولما كان يوم القيامة في غاية الصعوبة وكان أحد مشغولاً بنفسه، فكان لا علم له بتفاصيل ما يتفق لغيره، وكان أولياء الله إذا دخلوا دار كرامته أرادوا العلم بما فعل بأعدائهم فيه سبحانه، فتساءلوا عن حالهم فقال بعضهم لبعض: لا علم لنا، فكشف الله- لهم عنهم حتى رأوهم في النار وهي تسعر بهم ليقر الله أعينهم بعذابهم، زيادة في نعيمهم وثوابهم، كما تقدم في الصافات عند قوله: {قال قائل منهم إني كان لي قرين} [الصافات: 51] وكان بساط- الكلام دالاً على هذا كله، أشار لنا سبحانه إليه بقوله حكاية عما يقول لهم أولياؤهم توبيخاً وتعنيفاً وشماتة وتقريعاً تصديقاً لقوله تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} [المطففين: 34] الآية، ولتكون حكاية ذلك موعظة للسامعين وذكرى للذاكرين: {ما} هي محتملة للتوبيخ والتعجيب {سلككم} أي أدخلكم أيها المجرمون إدخالاً هو في غاية الضيق حتى كأنكم السلك في الثقب {في سقر} فكان هذا الخطاب مفهماً لأنهم لما تساءلوا نفوا العلم عن أنفسهم، وكان من المعلوم أن نفي العلم لأنهم شغلوا عن ذلك بأنفسهم وأنهم ما شغلوا- مع كونهم من أهل السعادة- إلا لأن ذلك اليوم عظيم الشواغل، وكان من المعلوم أنه إذا تعذر عليهم علم أحوالهم من أهل الجنة وهم غير مريدين الشفاعة فيهم فلم يبق لهم طريق إلى علم ذلك لا يظن به التعريض للشفاعة إلا السؤال منهم عن أنفسهم في أنهم يخاطبونهم بذلك فيعلمون علمهم ليزدادوا بذلك غبطة وسروراً بما نجاهم الله من مثل حالهم ويكثروا من الثناء على الله تعالى بما وفقهم له وليكون ذلك عظة لنا بسماعنا إياه فحكى الله أنهم لما سألوهم {قالوا} ذاكرين علة دخولهم النار بإفساد قوتهم العملية في التعظيم لأمر الله فذلكة لجميع ما تقدم من مهمات السورة بما حاصله أنهم لم يتحلوا بفضيلتين ولم يتخلوا عن رذيلتن تعريفاً بأنهم كانوا مخاطبين بفروع الشريعة، وفي البداءة بالعمل تنبيه على أنه يجب على العاقل المبادرة إلى ما يأمره به الصادق لأنه المصدق لحسن الاعتقاد، والمبادرة إلى التلبس بالعمل أسهل من المبادرة إلى التلبس بالعلم، لأن العمل له صورة وحقيقة، ومطلق التصوير أسهل من التحقيق، ومن صور شيئاً كان أقرب إلى تحقيقه ممن لم يصوره، فكان أجدر بتحقيقه ممن لم يباشر تصويره، ففيه حث على المسابقة إلى الأعمال الصالحة وإن لم تكن النية خالصة، وإيذان بأن من أدمن ترك الأعمال قاده إلى الانسلاخ من حسن الاعتقاد، وورطه في الضلال، {لم نك} حذفوا النون دلالة على ما هم فيه من الضيق عن النطق حتى بحرف يمكن الاغتناء عنه، ودلالة على أنه لم يكن لهم نوع طبع جيد يحثهم على الكون في عداد الصالحين، وكان ذلك مشيراً إلى عظيم ما هم فيه من الدواهي الشاغلة بضد ما فيه أهل الجنة من الفراغ الحامل لهم على السؤال عن أحوال غيرهم، وكان ذلك منبهاً على فضيلة العلم: {من المصلين} أي صلاة يعتد بها، فكان هذا تنبيهاً على أن رسوخ القدم في الصلاة مانع من مثل حالهم، وعلى أنهم يعاقبون على فروع الشريعة وإن كانت لا تصح منهم، فلو فعلوها قبل الإيمان لم يعتد بها، وعلى أن الصلاة أعظم الأعمال، وأن الحساب بها يقدم على غيرها.
ولما نفوا الوصلة بالخالق، أتبعوه إفساد القوة العملية بعدم وصلة الخلائق بترك الشفقة على خلق الله فقالوا: {ولم نك} بحذف النون أيضاً لما هم فيه من النكد ونفياً لأدنى شيء من الطبع الجيد {نطعم المسكين} أي لأجل مسكنته، نفوا هنا وجود إطعامه لأنهم إن اتفق إطعامهم له فلعلة أخرى غير المسكنة، وأما الصلاة فهم يوجدونها لله بزعمهم، لكن لما كانت على غير ما أمروا به لم تكن مقبولة فلم يكونوا من الراسخين في وصفها. ولما سلبهم التحلي بلباس الأولياء أثبت لهم التحلي بلباس الأشقياء بإفساد القوة النطقية جامعاً القول إلى الفعل فقالوا: {وكنا} أي بما جبلنا عليه من الشر {نخوض} أي نوجد الكلام الذي هو في غير مواقعه ولا علم لنا به إيجاد المشي من الخائض في ماء غمر {مع الخائضين} بحيث صار لنا هذا وصفاً راسخاً فنقول في القرآن: إنه سحر، وإنه شعر، وإنه كهانة وغير هذا من الأباطيل، لا نتورع عن شيء من ذلك، ولا نقف مع عقل، ولا نرجع إلى صحيح نقل، فليأخذ الذين يبادرون إلى الكلام في كل ما يسألون عنه من أنواع العلم من غير تثبت منزلتهم من هنا.
ولما كان الإدمان على الباطل يجر إلى غلبة الهزء والسخرية، وغلبه ذلك ولا بد توجب إفساد القوة العلمية بتصديق الكذب وتكذيب الصدق، قالوا بياناً لاستحبابهم الخلود: {وكنا نكذب} أي بحيث صار لنا ذلك وصفاً ثابتاً {بيوم الدين} ولما كان التقدير: واستمر تكذيبنا لصيرورته لنا أوصافاً ثابتة. بنوا عليه قولهم: {حتى أتانا} أي قطعاً {اليقين} أي بالموت أو مقدماته التي قطعتنا عن دار العمل فطاح الإيمان بالغيب.
ولما أقروا على أنفسهم بما أوجب العذاب الدائم، فكانوا ممن فسد مزاجه فتعذر علاجه، سبب عنه قوله: {فما تنفعهم} أي في حال اتصافهم بهذه الصفات وهي حالة لازمة لهم دائماً {شفاعة الشافعين} أي لو شفعوا فيهم. ولما كان هذا الإخبار بنعيم المنعم وعذاب المعذب موجباً للتذكر، سبب عنه الإنكار عليهم فقال: {فما} أي أيّ شيء يكون {لهم} حال كونهم {عن التذكرة} أي التذكر العظيم خاصة بالقرآن خصوصاً وبغيره عموماً {معرضين} وعلى الباطل وحده مقبلين، وذلك من أعجب العجب، لأن طبع الإنسان إذا حذر من شيء حذره أشد الحذر كما لو حذر المسافر من سبع في طريقه فإنه يبذل جهده في الحيدة عنه والحذر منه وإن كان المخبر كاذباً، فكيف يعرضون عن هذا المحذور الأعظم والمخبر أصدق الصادقين، فإعراضهم هذا دليل على اختلال عقولهم واختبال فهومهم، وزاد ذلك عجباً شدة نفارهم حتى {كأنهم} في إعراضهم عن التذكرة من شدة النفرة والإسراع في الفرة {حمر} أي من حمر الوحش وهي أشد الأشياء نفاراً، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل بسرعة السير بالحمر في عدوها إذا وردت ماء فأحست عليه ما يريبها، وفي تشبيه الكفرة بالحمر ولا سيما في هذه الحالة مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل وعدم التثبت {مستنفرة} أي موجدة للنفار بغاية الرغبة فيه حتى كأنها تطلبه من أنفسها لأنه من شأنها وطبعها- هذا على قراءة الجماعة، وقرأ أهل المدينة والشام بالفتح بمعنى أنه نفرها منفر.


ولما كان ذلك لا يكون إلا لسبب عظيم يتشوف إليه، استأنف قوله: {فرت من قسورة} أي أسد شديد القسر عظيم القهر فنشبت في حبائل سقر أو صيادين.
ولما كان الجواب قطعاً: لا شيء لهم في إعراضهم هذا، أضرب عنه بقوله: {بل يريد} أي على دعواهم وبزعمهم {كل امرئ منهم} أي المعرضين، مع ادعائه الكمال في المروءة {أن يؤتى} أي من السماء بناه للمفعول لأن مرادهم معروف {صحفاً} أي قراطيس مكتوبة {منشرة} أي كثيرة جداً وكل واحد منها منشور لا مانع من قراءته وأخذه، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتي كلاًّ منا بكتاب من السماء فيه: من الله إلى فلان اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم.
ولما كان ذلك إنما هو تعنت، لا أنه على حقيقته قال: {كلا} أي ليس لهم غرض في الاتباع بوجه من الوجوه لا بهذا الشرط ولا بغيره: {بل} علتهم الحقيقية في هذا الإعراض أنهم {لا يخافون} أي في زمن من الأزمان {الآخرة} ولما كان فعلهم هذا فعل من يعتقد في القرآن أنه ليس بوعظ صحيح يستحق أن يتبع، قال رادعاً لهم عن هذا اللازم: {كلا} أي ليس الأمر قطعاً كما تزعمون من أن هذا القرآن لا يستحق الإقبال، ثم أستأنف قوله مؤكداً لأجل ما تضمن هذا الفعل من إنكارهم: {إنه} أي القرآن {تذكرة} أي موضع وعظ عظيم يوجب إيجاباً عظيماً اتباعه وعدم الانفكاك عنه بوجه فليس لأحد أن يقول: أنا معذور لأني لم أجد مذكراً ولا معرفاً فإن عنده أعظم مذكر وأشرف مفرق.
ولما كان في غاية السهولة والحلاوة لكل من عرفه بوجه من الوجوه، وكان الله سبحانه قد خلق القوى والقدر، وجعل للعبد اختياراً، قال مسبباً عن كونه موضعاً للتذكر: {فمن شاء} أي أن يذكره {ذكره} فثبت في صدره وعلم معناه وتخلق به، فليس أحد يقدر أن يقول: إنه صعب التركيب عظيم التعقيد عسر الفهم، يحتاج في استخراج المعاني منه إلى علاج كبير وممارسة طويلة فأنا معذور في الوقوف عنه، بل هو كالبحر الفرات، من شاء اغترف، لأنه خوطب به أمة أمية لا ممارسة لها لشيء من العلوم، فسهل في لفظه ومعناه غاية السهولة مع أنه لا يوصل إلى قراره ولا يطمع في مناظرة أثر من آثاره، بل كلما زاد الإنسان فيه تأملاً زاده معاني.
ولما كان هذا ربما أوهم أن للعبد استقلالاً بالتصرف، قال معلماً بأن هذا إنما هو كناية عما له من السهولة والحلاوة والعذوبة التي توجب عشقه لكل ذي لب منبهاً على ترك الإعجاب وإظهار الذل والالتجاء والافتقار إلى العزيز الغفار في طلب التوفيق لأقوم طريق: {وما يذكرون} أي ولا واحد منكم هذا القرآن ولا غيره في وقت من الأوقات {إلا أن يشاء الله} أي الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه، وهو صريح في أن فعل العبد من المشيئة، وما ينشأ عنها إنما هو بمشيئة الله.
ولما ثبت أنه سبحانه الفعال لما يريد وأنه لا فعل لغيره بدون مشيئته، وكان من المعلوم أن أكثر أفعال العباد مما لا يرضيه، فلولا حلمه ما قدروا على ذلك، وكان عفو القادر مستحسناً، قال مبيناً لأنه أهل للرهبة والرغبة: {هو} أي وحده {أهل التقوى} أي أن يتقوه عباده ويحذروا غضبه بكل ما تصل قدرتهم إليه لما له من الجلال والعظمة والقهر، ويجوز أن يكون الضمير للمتقي {وأهل المغفرة} أي لأن يطلب غفرانه للذنوب لا سيما إذا اتقاه المذنب لأن له الجمال واللطف وهو قادر ولا قدرة لغيره ولا ينفعه شيء ولا يضره شيء، فهو الحقيق بأن يجعل موضع الإنذار الذي أمر به أول السورة البشارة، ويوفق عباده لتكبيره وهجران الرجز، وكذا فعل سبحانه بقوم هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني في الأوسط والحاكم وأبو يعلى والبغوي والبزار عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قرأ هذه الآية ثم قال: يقول الله: أنا أهل أن أتقي، فمن اتقى أن يشرك بي غيري فأن أهل أن أغفر له» وقال الترمذي وابن عدي والطبراني: تفرد به سهل بن أبي حزم القطعي، فقد رجع آخر السورة على أولها، وانطبق مفصلها على موصلها، بضم البشارة إلى النذارة، وصار كأنه قيل: أنذر العاصي فإنه أهل لأن يرجع إلى طاعاته، فيكون سبحانه أهلاً لأن يعود عليه بستر زلاته.

1 | 2 | 3